فصل: مسائل تتعلق بهذا المبحث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقال ابن عبد البر‏:‏ الظاهر أن مالكًا ما كان يعلم أن التين كذلك وأما الحبوب فيوجد فيها الاقتيات والإدخار فألحقا بالحنطة والشعير كل ما كان مقتاتًا مدخرًا كالأرز والذرة والدخن والقطاني ونحو ذلك‏.‏ ـ فهو إلحاق منهما ـ رحمهما الله ـ للمسكوت بالمنطوق بجامع العلة التي هي عندهما الاقتيات والإدخار‏.‏ لأن كونه مقتاتًا مدخرًا مناسب لوجوب الصدقة فيه‏.‏ لاحتياج المساكين إلى قوت يأكلون منه ويدخرون‏.‏

وأما أحمد ـ رحمه الله ـ فحجته في قوله إن الزكاة تجب فيما يبقى وييبس ويكال‏:‏ أن ما لا ييبس ولا يبقى كالفواكه والخضراوات لم تكن تؤخذ منه الزكاة في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا زمن الخلفاء الراشدين‏.‏

ودليله في اشتراطه الكيل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة‏"‏ قال‏:‏ فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب في الوسق، وهو خاص بالمكيل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

أما دليل الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله على أن الفواكة والخضراوات‏.‏ لا زكاة فيها فظاهر‏.‏ لأن الخضراوات كانت كثيرة بالمدينة جدًا والفواكه كانت كثيرة بالطائف، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه أخذ الزكاة من شيء من ذلك‏.‏

قال القرطبي‏:‏ في تفسير هذه الآية‏.‏ وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج، فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ذكره، ولا أحد من خلفائه، قلت‏:‏ وهذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شيء، وأما الآية فقد اختلف فيها‏:‏ هل هي محكمة أو منسوخة، أو محمولة على الندب‏؟‏ ولا قاطع يبين أحد محاملها، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه أن الكوفة افتتحت بعد موت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وبعد استقرار الأحكام بالمدينة‏.‏ أفيجوز أن يتوهم متوهم، أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي، ولا خلافة أبي بكر حتى عمل بذلك الكوفيون‏؟‏ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا، أو قال به‏.‏ قلت‏:‏ ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ أتراه يكتم شيئًا أمر بتبليغه أو بيانه ـ حاشاه من ذلك ـ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ، ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئًا‏.‏ وقال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فيما رواه الدارقطني‏:‏ إن المقاثىء كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء‏.‏ وقال الزهري والحسن‏:‏ تزكى أثمان الخضر إذا أينعت وبلغ الثمن مائتي درهم، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه، ولا حجة في قولهما لما ذكرنا‏.‏

وقد روى الترمذي عن معاذ‏:‏ أنه كتب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال‏:‏ ليس فيها شيء وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة‏:‏ ذكر أحاديثهم الدارقطني ـ رحمه الله ـ وقال الترمذي ليس يصح في هذا الباب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيء، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة‏"‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم قلت وإذا سقط الإستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها لم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏فيما سقت السماء العشر‏"‏ بما ذكرنا اهـ‏.‏ كلام القرطبي‏.‏

وحجة من قال‏:‏ بأنه لا زكاة في غير الأربعة المجمع عليها التي هي الحنطة والشعير والتمر والزبيب هي الأحاديث التي قدمنا في أول هذا المبحث، وفيها حديث معاذ وأبي موسى الذي تقدم عن البيهقي أنه قوي متصل‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة وكان محمد يعتبرفي العصفر، والكتان البزر‏.‏ فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتاب خمسة أوسق‏.‏ كان العصفر والكتان تبعًا للبزر وأخذ منه العشر أو نصف العشر، وأما القطن فليس عنده فيما دون خمسة أحمال شيء، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي، والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء‏.‏ فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، وقال أبو يوسف وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج فيه ما في الزعفران، وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول، وهو مخالف لما عليه أهل مذهبه مالك وأصحابه‏.‏ قاله القرطبي‏.‏

تنبيه

من قال لا زكاة في الرمان وهم جمهور العلماء، ومن قال لا زكاة في الزيتون يلزم على قول كل منهم، أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ منسوخة أو مرادًا بها غير الزكاة لأنها على تقدير أنها محكمة، وأنها في الزكاة المفروضة لا يمكن معها القول بعدم الزكاة الزيتون والرمان، لأنها على ذلك صريحة فيها‏.‏

لأن المذكورات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏ يرجع إلى كلها الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ كما هو واضح لا لبس فيه‏.‏ فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولًا أو ليالًا شك فيه، فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية، أو أنها في غير الزكاة المفروضة ـ والله تعالى أعلم ـ وعن أبي يوسف أنه أوجب الزكاة في الحناء، واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جدًا من جهة النظر‏.‏ لأنه قال ما أنبتته الأرض ضربان موسق وغير موسق فما كان موسقًا وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه‏"‏ وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فيما سقت السماء العشر‏"‏ ولا يخصص بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة لأنه غير موسق أصلًا‏.‏ قال مقيده ـ‏:‏ عفا الله عنه ـ وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف، ولو كان العموم شاملًا لذلك لبينه صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة وأدلة أقوالهم مما ذكرنا‏.‏

فاعلم أن جمهور العلماء قالوا لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعدًا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة‏"‏ الحديث‏.‏ أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ ومسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ‏.‏

وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة‏:‏ مالك والشافعي وأحمد ـ رحمهم الله ـ وأصحابهم، وهو قول ابن عمر، وجابر وأبي أمامة بن سهل، وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد، والحسن وعطاء ومكحول والحكم والنخعي، وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، وأبي يوسف ومحمد وسائر أهل العلم، كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره‏.‏

وقال ابن قدامة في المغني‏:‏ لا نعلم أحدًا خالف فيه إلا أبا حنيفة، ومن تابعه، ومجاهدًا، وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعًا‏.‏ وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح‏.‏ وقيل‏:‏ هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر، ويجمع على أوسق في القلة وأوساق وعلى وسوق في الكثرة‏.‏ واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمد بالتقريب‏:‏ ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد، ومن الصيعان ثلاثمائة، وهي

بالوزن ألف رطل وستمائة رطل‏.‏ والرطل‏:‏ وزن مائة وثمانية وعشرين درهمًا مكيًا‏.‏ وزاد بعض أهل العلم‏:‏ أربعة أسباع درهم، كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير كما حرره علماء المالكية ومالك ـ رحمه الله ـ من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم، وقيل فيه‏:‏ غير ما ذكرنا‏.‏

وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثلاثة المذكورة في أول هذا المبحث وهو تعيين القدر الواجب إخراجه‏.‏ فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة‏.‏ كالذي يسقيه المطر أو النهر أو عروقه في الأرض، وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر، وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وابن عمر، فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر بلا خلاف بين العلماء وإن كان أحد الأمرين أغلب‏.‏ فقيل‏:‏ يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعًا له، وبه قال أحمد وأبو حنيفة والثوري وعطاء، وهو أحد قولي الشافعي، وقيل‏:‏ يؤخذ بالتقسيط، وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية، وحكى بعضهم رواية عن مالك‏:‏ أن المعتبر ما حيى به الزرع وتم، وممن قال بالتقسيط من الحنابلة‏:‏ ابن حامد، فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطًا، كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ في رواية عبد الله‏.‏ قاله في المغني‏.‏ وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه يتحقق الكلفة‏.‏ وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جدًا‏.‏ وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر‏؟‏ فالقول‏:‏ قول رب المال بغير يمين، لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، ولا وقص في الحبوب والثمار، بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه‏.‏ * * *

مسائل تتعلق بهذا المبحث

المسألة الأولى‏:‏ قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب‏.‏ وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما، لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب‏.‏ فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب، ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة ـ حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق، ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف‏.‏ فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلًا‏.‏ فلا زكاة فيه، لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين، لا من الرطب والعنب وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه، وبينه، وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمرًا أو زبيبًا، وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء والرفق بأرباب الثمار، فإن أصابته بعد الخرص جائحة اعتبرت وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة، فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعدًا أخرج الزكاة وإلا فلا، ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء‏.‏

وممن قال بخرص النخيل والأعناب‏:‏ الأئمة الثلاثة‏:‏ مالك، والشافعي، وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ وعمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة، ومروان والقاسم بن محمد، والحسن وعطاء والزهري، وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق، وأبو عبيد، وأبو ثور‏:‏ وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وحكي عن الشعبي، أن الخرص بدعة، ومنعه الثوري، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم، وإنما كان الخرص تخويفًا للقائمين على الثمار لئلا يخونوا، فأما أن يلزم به حكم فلا‏.‏ قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ‏"‏تبوك‏"‏ فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اخرصوها، فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق‏"‏ وقال‏:‏ أحصيها حتى نرجع إليك، إن شاء الله، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فذكر الحديث‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها‏؟‏ قالت‏:‏ بلغ عشرة أوسق‏"‏ فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص، كما ترى‏.‏

وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم‏"‏ أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه وابن حبان‏.‏

وعن عتاب رضي الله عنه أيضًا قال‏:‏ ‏"‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب، كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ صدقة النَّخل تمرًا‏"‏ أخرجه أيضًا أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني‏.‏

والتحقيق في حديث عتاب هذا، أنه من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، لأنه لم يدرك عتابًا، لأن مولد سعيد في خلافة عمر، وعتاب مات يوم مات أبو بكر رضي الله عنهما، وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل، وقال النووي في شرح المهذب‏:‏ إن من أصحابنا‏:‏ من قال يحتج بمراسيل ابن المسيب مطلقًا، والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله، إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور‏:‏ أن يسند أو يرسل من جهة أخرى، أو يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وقد وجد ذلك هنا‏.‏ فقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر، والزبيب‏.‏ قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ وبما ذكره النووي تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل، والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقًا فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل، وروى هذا الحديث الدارقطني بسند فيه الواقدي متصلًا، فقال عن سعيد بن المسيب، عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يوكل منه، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص، أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق‏"‏ أخرجه أحمد وأبو داود، وقد أعل بأن فيه واسطة بين ابن جريج والزهري، ولم يعرف، وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة، وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليسًا قاله ابن حجر، وقال ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال‏:‏ فرواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله معمر ومالك، وعقيل‏:‏ فلم يذكروا أبا هريرة، وأخرج أبو داود من طريق ابن جريج‏:‏ أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق‏.‏

وقال ابن حجر في التلخيص‏:‏ أيضًا روى أحمد من حديث ابن عمر ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم‏"‏ الحديث‏:‏

وروى أبو داود والدارقطني من حديث جابر ‏"‏لما فتح الله على رسوله خيبر أقرهم، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم‏"‏ الحديث ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس‏.‏

وروى الدارقطني عن سهل بن أبي خيثمة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباه خارصًا فجاء رجل، فقال‏:‏ يا رسول الله إن أبا خيثمة قد زاد علي‏"‏ الحديث، ثم ذكر ابن حجر حديث عتاب، وحديث عائشة اللذين قدمناهما، ثم قال وفي الصحابة، لأبي نعيم من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت عن أبيه عن جده ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص، فقال‏:‏ أثبت لنا النصف، وأبق لهم النصف، فإنهم يسرقون، ولا نصل إليهم‏"‏‏.‏

فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ظن وتخمين باطل، بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير، فهو كتقويم المتلفات ووقت الخرص حتى يبدو صلاح الثمر، كما قدمنا لما قدمنا، من الرواية ‏"‏بأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث الخارص فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل‏"‏، ولا خلاف في ذلك بين العلماء‏.‏

والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه، فقيل‏:‏ هو سنة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، كان يأمر به، وقيل‏:‏ واجب لما تقدم في حديث عتاب من قوله ‏"‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب‏"‏ الحديث المتقدم، قالوا‏:‏ الأمر للوجوب، ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء، والأظهر عدم الوجوب، لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي، والله تعالى أعلم‏.‏

واختلف العلماء القائلون بالخرص هل على الخارص أن يترك شيئًا، فقال بعض العلماء‏:‏ عليه أن يترك الثلث أو الربع، لما رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا خرصتم فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع‏"‏ فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراري عن سهل بن أبي حثمة‏.‏

وقد قال البزار‏:‏ إنه انفرد به، وقال ابن القطان لا يعرف حاله، فالجواب أن له شاهدًا بإسناد متفق عليه على صحته ‏"‏أن عمر بن الخطاب أمر به، قاله الحاكم، ومن شواهده ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعًا ‏"‏خففوا، في الخرص‏"‏ الحديث، وفي إسناده ابن لهيعة‏.‏

وممن قال بهذا القول الإمام أحمد، وإسحاق، والليث، وأبو عبيد وغيرهم، ومشهور مذهب مالك‏.‏ والصحيح في مذهب الشافعي أن الخارص لا يترك شيئًا‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب لثبوت الحديث الذي صححه ابن حبان، والحاكم بذلك، ولم يثبت ما يعارضه، ولأن الناس يحتاجون إلى أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم وضيوفهم، وأصدقاءهم، وسؤالهم، ولأن بعض الثمر يتساقط وتنتابه الطير وتأكل منه المارة، فإن لم يترك لهم الخارص شيئًا‏.‏ فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه، ولا يحسب عليهم‏.‏

وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور، فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص، فقال بعض العلماء‏:‏ لا زكاة عليه فيما زاد، وتلزمه فيما نقص، لأنه حكم مضى‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يندب الإخراج في الزائد، ولا تسقط عنه زكاة ما نقص‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه، أما فيما بينه وبين الله، فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد، وأما فيما بينه وبين الناس، فإنها قد تجب عليه قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره، وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج، وهل على ظاهره أو الوجوب تأويلان‏.‏

قال شارحه المواق من المدونة‏:‏ قال مالك‏:‏ من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس، قال بعض شيوخنا‏:‏ لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب، وهو صواب كالحاكم يحكم بحكم، ثم يظهر أنه خطأ صراح ابن عرفة، على هذا حملها الأكثر، وحملها ابن رشيد، وعياض على الاستحباب‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر، وعليه أكثر المالكية، وهو الصحيح عند الشافعية، وأما النقص، فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به، فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به، وإن ادعى غلط الخارص‏.‏

فقد قال بعض أهل العلم‏:‏ لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين، وقال بعض العلماء‏:‏ تقبل دعواه غلط الخارص، إذا كانت مشبهة، أما إذا كانت بعيدة، كدعواه زيادة النصف، أو الثلثين فلا يقبل قوله في الجميع، وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي، وأحمد إلا أن بعض الشافعية قال، يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه، وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمدًا، فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف، كما لو ادعى جور الحاكم، أو كذب الشاهد، وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص، ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه نص عليه علماء الشافعية، وإن ادعى رب الثمر أنه أصابته جائة أذهبت بعضه، فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله، كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلًا قيل بيمين‏.‏

وقيل‏:‏ لا وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس، كأن يقول هلكت بحريق وقع في الجرين في وقت كذا، وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه، فإن علم وقوع السبب الذي ذكر، وعموم أثره صدق بلا يمين، وإن اتهم حلف، قيل‏:‏ وجوبًا، وقيل‏:‏ استحبابًا، وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده، فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب، ثم القول قوله في الهلاك به، وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي في شرح المهذب، ووجهه ظاهر، والله تعالى أعلم ‏.‏

وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر، والزبيب، فلا يخرص الزيتون والزرع ولا غيرهما، وأجازه بعض العلماء في الزيتون، وأجازه بعضهم في سائر الحبوب‏.‏ والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر والعنب لثلاثة أمور‏:‏

الأول‏:‏ أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد وغيره من الأحاديث‏.‏

الثاني‏:‏ أن غيرهما ليس في معناهما، لأن الحاجة تدعوا غالبًا إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمرًا، والعنب قبل أن يكون زبيبًا، وليس غيرهما كذلك الثالث‏:‏ أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها، والعنب ظاهر أيضًا مجتمع في عناقيده، فحزرهما ممكن بخلاف غيرهما من الحبوب، فإنه متفرق في شجره والزرع مستتر في سنبله‏.‏

والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب، لما قدمنا، وقال المالكية يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب، ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها‏.‏ * * *

المسألة الثانية‏:‏ لا يجوز إخراج زكاة الثمار إلا من التمر اليابس والزبيب اليابس، وكذلك زكاة الحبوب لا يجوز إخراجها، إلا من الحب اليابس بعد التصفية، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع، فإن دفع زكاة التمر بسرًا أو رطبًا أو دفع زكاة الزبيب عنبًا لم يجزه ذلك، لأنه دفع غير الواجب، لأن الواجب تمر وزبيب يابسان إجماعًا‏.‏

وقد قال ابن قدامة في المغني‏:‏ فإن كان المخرج للرطب رب المال لم يجزه ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف، لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه، كما لو أخرج الصغير عن الماشية الكبار، وهو نص صريح منه في أن الرطب غير الواجب، وأن منزلته من التمر الذي هو الواجب كمنزلة صغار الماشية من الكبار التي هي الواجبة في زكاة الماشية‏.‏

وقال النووي في شرح المهذب ما نصه فلو أخرج الرطب والعنب في الحال لم يجزئه بلا خلاف، ولو أخذه الساعي غرمه بلا خلاف، لأنه قبضه بغير حق، وكيف يغرمه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف في آخر الباب‏:‏الصحيح‏:‏ الذي قطع به الجمهور، ونص عليه الشافعي رضي الله عنه، أنه يلزمه قيمته‏.‏

والثاني‏:‏ يلزمه مثله وهما مبنيان على أن الرطب والعنب مثليان أم لا، والصحيح المشهور أنهما ليسا مثليين ولو جف عند الساعي، فإن كان قدر الزكاة أجزأ، وإلا رد التفاوت أو أخذه كذا قاله العراقيون وغيرهم، وحكى ابن كج وجهًا أنه لا يجزىء بحال لفساد القبض، قال الرافعي‏:‏ وهذا الوجه أولى والمختار ما سبق انتهى كلام النووي بلفظه، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب والعنب بلا خلاف عند الشافعية‏.‏

وقال صاحب المهذب ما نصه‏:‏ فإن أخذ الرطب وجب رده، وإن فات وجب رد قيمته، ومن أصحابنا من قال‏:‏ يجب رد مثله، والمذهب الأول لأنه لا مثل له، لأنه يتفاوت، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض اهـ‏.‏ منه بلفظه، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب في زكاة التمر، وهذا الذي ذكرنا عن عامة العلماء من أن الزكاة لا تؤخذ إلا من التمر والزبيب اليابسين، هو مذهب مالك وعامة أصحابه وفي الموطأ ما نصه‏.‏

قال مالك‏:‏ الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل تخرص على أهلها وثمرها في رؤوسها إذا طاب وحل بيعه، ويؤخذ منه صدقته تمرًا عند الجذاذ إلى أن قال‏:‏ وكذلك العمل في الكرم انتهى محل الفرض منه بلفظه، وفيه تصريح مالك رحمه الله بأن الأمر المجتمع عليه من علماء زمنه، أن الزكاة تخرج تمرًا، وهو يدل دلالة واضحة على أن من ادعى جواز إخراجها من الرطب أو البسر، فدعواه مخالفة للأمر المجتمع عليه عند مالك وعلماء زمنه‏.‏

ومن أوضح الأدلة على ذلك، أن البلح الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب كبلح مصر وعنبها، لا يجوز الإخراج منه مع تعذر الواجب الذي هو التمر والزبيب اليابسان، بل تدفع الزكاة من ثمنه أو قيمته عند مالك وأصحابه، فلم يجعلوا العنب والرطب أصلًا، ولم يقبلوهما بدلًا عن الأصل، وقالوا‏:‏ بوجوب الثمن إن بيع، والقيمة إن أكل‏.‏

قال خليل في مختصره‏:‏ وثمن غير ذي الزيت وما لا يجف ومراده بقوله‏:‏ وما لا يجف أن الرطب والعنب اللذين لا ييبسان يجب الإخراج من ثمنهما لا من نفس الرطب والعنب، وفي المواق في شرح قول خليل، وإن لم يجف ما نصه‏.‏

قال مالك‏:‏ إن كان رطب هذا النخل لا يكون تمرًا، ولا هذا العنب زبيبًا فليخرص أن لو كان ذلك فيه ممكنًا، فإن صح في التقدير خمسة أوسق أخذ من ثمنه انتهى محل الفرض منه بلفظه، وهو نص صريح عن مالك أنه لا يرى إخراج الرطب، والعنب في الزكاة لعدوله عنهما إلى الثمن في حال تعذر التمر والزبيب اليابسين، فكيف بالحالة التي لم يتعذرا فيها‏.‏

والحاصل أن إخراج الرطب والعنب عما يبس من رطب وعنب، لم يقل به أحد من العلماء، ولا دل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس وأما الذي لا ييبس كبلح مصر وعنبها ففيه قول مرجوح عند المالكية بإجزاء الرطب والعنب، ونقل هذا القول عن ابن رشد، وسترى إن شاء الله في آخر هذا المبحث كلام الشافعية والحنابلة فيه، فإن قيل‏:‏ فما الدليل على أنه لا يجزىء إلا التمر والزبيب اليابسان دون الرطب والعنب‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن ذلك دلت عليه عدة أدلة الأول‏:‏ هو ما قدمنا من حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا‏"‏ وقد قدمنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني، وقد قدمنا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب، وقدمنا أيضًا أن الاحتجاج بمثل هذا المرسل من مراسيل سعيد صحيح عند الأئمة الأربعة، فإذا علمت صحة الاحتجاج بحديث سعيد بن المسيب هذا‏.‏ فاعلم أنه نص صريح في ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بخرص العنب والنخل، وأن تؤخذ زكاة العنب زبيبًا، وصدقة النخيل تمرًا، فمن ادعى جواز أخذ زكاة النخل رطبًا أو بسرًا‏"‏ فدعواه مخالفة لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بأخذها في حال كونها تمرًا في النخل وزبيبًا في العنب، ومعلوم أن الحال وصف لصاحبها قيد لعاملها‏.‏ فكون زكاة النخل تمرًا وصف لها أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بإخراجها في حال كونها متصفة به‏.‏ وكذلك كونها تمرًا قيد لأخذها، فهو تقييد من النَّبي صلى الله عليه وسلم لأخذها بأن يكون في حال كونها تمرًا، فيفهم منه أنها لا تؤخذ على غير تلك الحال ككونها رطبًا مثلًا وإذا اتضح لك أن أخذها رطبًا ـ مثلًا ـ مخالف لما أمر به صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه قال في الحديث المتفق عليه ‏"‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد‏"‏، وفي رواية في الصحيح ‏"‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏ وفي الكتاب العزيز ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَـالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ ‏.‏

ومما يوضح لك أن إخراج الرطب مثلًا في الزكاة مخالف لما سنه وشرعه صلى الله عليه وسلم من أخذها تمرًا، وزبيبًا يابسين ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى في باب ‏"‏كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب‏"‏ فإنه قال فيه وأخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني‏.‏ أنبأ بشر بن أحمد‏.‏ أنبأ أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء‏.‏ ثنا علي بن عبد الله ـ ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، أخبرني الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب كما يخرص النخل‏"‏ ثم تؤدى زكاته زبيبًا كما تؤدى زكاة النخل تمرًا‏"‏ قال‏:‏ فتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخل والعنب ـ اهـ‏.‏ منه بلفظه، وفيه التصريح بأن إخراج التمر والزبيب‏:‏ هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمخرج الرطب والعنب مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم كما ترى‏.‏

الدليل الثاني‏:‏ إجماع المسلمين على أن زكاة الثمار والحبوب من نوع ما تجب الزكاة في عينه، والعين الواجبة فيها الزكاة هي‏:‏ التمر والزبيب اليابسان‏.‏ لا الرطب والعنب بدليل إجماع القائلين بالنصاب في الثمار‏.‏ على أن خمسة الأوسق التي هي النصاب لا تعتبر من الرطب، ولا من العنب، فمن كان عنده خمسة أوسق من الرطب أو العنب، ولكنها إذا جفت نقصت عن خمسة أوسق فلا زكاة عليه‏.‏ لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين، فلو أخرج الزكاة من الرطب أو العنب لكان مخرجًا من غير ما تجب في عينه الزكاة كما ترى، ويدل له ما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ، فإنه قال فيه في شرح قول مالك‏.‏ ثم يؤدون الزكاة على ما خرص عليهم ما نصه، ومبنى التخريص أن يحزر ما في النخل أو العنب من التمر اليابس إذا جذ على حسب جنسه، وما علم من حاله أنه يصير إليه عند الإتمار‏.‏ لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرًا‏.‏ انتهى محل الفرض منه بلفظه‏.‏

وقد تقرر عند جماهير العلماء أن لفظة إنما للحصر وهو الحق‏.‏ فقول الزرقاني لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرًا معناه حصر أخذ زكاة النخل في خصوص التمر دون غيره من رطب ونحوه، معللًا بذلك اعتبار النصاب من التمر اليابس‏.‏ لأن الإخراج مما تجب في عينه الزكاة من الثمار والحبوب وهو واضح، ولا يرد على ما ذكرناه أن وقت وجوب الزكاة‏:‏ هو وقت طيب الثمر قبل أن يكون يابسًا، لإجماع العلماء على أنه لا يجب إخراجها بالفعل إلا بعد أن يصير تمرًا يابسًا ولإجماعهم أيضًا على أنه إن أصابته جائحة اعتبرت، فتسقط زكاة ما أجيح، كما تسقط زكاة الكل إن لم يبق منه نصاب‏.‏ وسيأتي له زيادة إيضاح‏.‏

الدليل الثالث‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذها تمرًا بعد الجذاذ لا بلحًا ولا رطبًا، والله جل وعلا يقول‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ، ويقول‏:‏ ‏{‏وَمَآ ءَاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ‏}‏ ، ويقول‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ، ويقول‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى‏}‏ ، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

قال البخاري في صحيحه‏:‏ ‏"‏باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس الصدقة‏"‏ حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي‏.‏ حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كومًا من تمر، فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها من فيه‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أما علمت أن آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأكلون الصَّدقة‏"‏ اهـ‏.‏

فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ صدقة النخل تمرًا بعد الجذاذ، وقد تقرر في الأصول أن صيغة المضارع بعد لفظة كان في نحو كان يفعل كذا‏:‏ تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل، فقول أبي هريرة في هذا الحديث المرفوع الصحيح‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يؤتى بالتمر عند صرام النخل‏"‏‏.‏

الحديث يدل دلالة واضحة على أن إخراج التمر عند الجذاذ هو الذي كان يفعل دائمًا في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأخذ في الزكاة ذلك التمر اليابس، فمن ادعى جواز إخراج زكاة النخل رطبًا أو بلحًا فهو مخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن حجر في ‏"‏فتح الباري‏"‏ في شرح هذا الحديث المذكور آنفًا ما نصه ‏"‏قال الإسماعيلي‏:‏ قوله عند صرام النخل‏.‏ أي بعد أن يصير تمرًا، لأن النخل قد يصرم وهو رطب، فيتمر في المربد، ولكن ذلك لا يتطاول فحسن أن ينسب إلى الصرام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ فإن المراد بعد أن يداس وينقى والله تعالى أعلم‏"‏ اهـ‏.‏ منه بلفظه وهو واضح فيما ذكرنا‏.‏ وبما ذكرنا تعلم أن ما يدعيه بعض أهل العلم من المتأخرين من جواز إخراج زكاة النخل رطبًا وبسرًا غير صحيح، ولا وجه له، ولا دليل عليه، وأما إن كان التمر لا ييبس، كبلح مصر وعنبها فقد قدمنا عن مالك وأصحابه أن الزكاة تخرج من ثمنه إن بيع، أو قيمته إن أكل، لا من نفس الرطب أو العنب‏.‏

وقد قدمنا عن ابن رشد قولًا مرجوحًا بإجزاء الرطب والعنب في خصوص ما لا ييبس‏.‏

ومذهب الشافعي رحمه الله في زكاة ما لا ييبس‏:‏ أنه على القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع، فيجوز القسم ويجعل العشر أو نصفه متميزًا في نخلات، ثم ينظر المصدق‏:‏ فإن رأى أن يفرق عليهم فعل، وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل، وأما على القول بأن القسمة بيع فلا يجوز في الرطب والعنب، ويقبض المصدق عشرها مشاعًا، بالتخلية بينه وبينها، ويستقر عليه ملك المساكين، ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرقه عليهم، وهكذا الحكم عنده فيما إذا احتيج إلى قطع الثمرة رطبًا خوفًا عليها من العطش ونحوه‏.‏

وحكم هذه المسألة في المذهب الحنبلي فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص، ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة، ويأخذ ثمرتها‏.‏ وبين أن يجذها ويقاسمه إياها بالكيل، ويقسم الثمرة في الفقراء، وبين أن بيعها من رب المال أو غيره قبل الجذاذ أو بعده، ويقسم ثمنها في الفقراء‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن عليه الزكاة من تمر وزبيب يابسين، قاله أبو بكر‏.‏ وذكر أن أحمد ـ رحمه الله ـ نص عليه‏.‏ قاله صاحب المغني، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب أحمد ـ رحمه الله ـ في المسألتين‏.‏ أعني الثمر الذي لا ييبس، والذي احتيج لقطعه قبل اليبس‏.‏ * * *

المسألة الثالثة‏:‏ اختلف في وقت وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض من ثمر وحب‏.‏ فقال جمهور العلماء‏:‏ تحب في الحب إذا اشتد، وفي الثمر إذا بدا صلاحه فتعلق الوجوب عند طيب التمر‏.‏ ووجوب الإخراج بعد الجذاذ‏.‏

وفائدة الخلاف أنه لو تصرف في الثمر والحب قبل الوجوب لم يكن عليه شيء، وإن تصرف في ذلك بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة عنه‏.‏

ومن فوائده أيضًا‏:‏ أنه إذا مات بعد وقت الوجوب زكيت على ملكه، وإن مات قبل الوجوب زكيت على ملك الورثة، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية‏:‏ واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال‏.‏

الأول‏:‏ أنه وقت الجذاذ‏.‏ قاله محمد بن مسلمة‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم حصاده‏}‏ ‏.‏

الثاني‏:‏ يوم الطيب‏.‏ لأن ما قبل الطيب يكون علفًا لا قوتًا ولا طعامًا، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به، وجب الحق الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يكون بعد تمام الخرص‏.‏ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطًا لوجوبها كمجيء الساعي في الغنم، وبه قال المغيرة، والصحيح الأول لنص التنزيل، والمشهور في المذهب الثاني، وبه قال الشافعي‏.‏ اهـ منه‏.‏

وقد قدمنا أن مالكًا ـ رحمه الله ـ يقول‏:‏ بأن كل ما أكله المالك أو تصدق به يحسب عليه، وجمهور العلماء يخالفونه ـ رحمه الله ـ في ذلك‏.‏ واحتجوا لأن ما يأكله لا يحسب عليه بقوله تعالى ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏‏.‏ وبالحديث المتقدم‏.‏ أن على الخارص أن يدع الثلث أو الربع‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان كالصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف‏.‏

فائدة‏:‏ ينبغي لصاحب الحائط إذا أراد الجذاذ ألا يمنع المساكين من الدخول، وأن يتصدق عليهم لقوله تعالى في ذم أصحاب أهل الجنة المذكورة في سورة القلم ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ‏}‏، والعلم عند الله تعالى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا‏}‏ ‏.‏ هذه الآية الكريمة صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها، التي هي‏:‏ الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، ولكنه تعالى بين في بعض المواضع تحريم غير المذكورات كتصريحه بتحريم الخمر في سورة المائدة بقوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

وقال بعض العلماء لا يحرم مطعوم إلا هذه الأربعة المذكورة، وهو قول يروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة قال القرطبي‏:‏ ويروى عنهم أيضًا خلافه، وقال البخاري في صحيحه‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله‏.‏ حدثنا سفيان‏.‏ قال عمرو‏:‏ قلت لجابر بن زيد‏:‏ يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية فقال‏:‏ ‏"‏قد كان يقول ذلك الحُكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا‏}‏ اهـ‏.‏ وقال ابن خويز منداد من المالكية‏:‏ تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثنى في الآية من الميتة، والدم، ولحم الخنزير‏.‏

ولهذا قلنا‏:‏ إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان، والخنزير مباحة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ روي عن عائشة وابن عباس وابن عمر إباحة أكل لحوم السباع، والحمر، والبغال، وذكر حديث البخاري الذي قدمنا آنفًا‏.‏

ثم قال‏:‏ وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال‏:‏ لا بأس بها‏.‏ فقيل له حديث أبي ثعلبة الخشني‏.‏ فقال‏:‏ لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه‏.‏

وسئل الشعبي عن لحم الفيل، والأسد‏.‏ فتلا هذه الآية‏.‏

وقال القاسم‏:‏ كانت عائشة تقول‏:‏ لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع‏.‏ ذلك حلال‏.‏ وتتلو هذه الآية‏:‏

{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا‏}‏ ‏.‏

قال مقيده‏:‏ ـ عفا الله عنه ـ اعلم أنا نريد في هذا المبحث أن نبين حجة من قال بعدم تحريم لحوم السباع والحمير ونحوها، وحجة من قال بمنعها، ثم نذكر الراجح بدليله‏.‏

واعلم أولًا‏:‏ أن دعوى أنه لا يحرم مطعوم غير الأربعة المذكورة في هذه الآية باطلة‏.‏ بإجماع المسلمين لإجماع جميع المسلمين، ودلالة الكتاب والسنة على تحريم الخمر فهو دليل قاطع على تحريم غير الأربعة‏.‏

ومن زعم أن الخمر حلال لهذه الآية‏.‏ فهو كافر بلا نزاع بين العلماء، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذين استدلوا بهذه الآية على عدم تحريم ما ذكر قالوا‏:‏ إن الله حصر المحرمات فيها في الأربعة المذكورة، وحصرها أيضًا في النحل فيها في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ لأن إنما أداة حصر عند الجمهور، والنحل بعد الأنعام، بدليل قوله في النحل ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏.‏ والمقصوص المحال عليه هو المذكور في الأنعام في قوله ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏، ولأنه تعالى قال في الأنعام‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا‏}‏‏.‏ ثم صرح في النحل بأنهم قالوا ذلك بالفعل في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏.‏ فدل ذلك على أن النحل بعد الأنعام، وحصر التحريم أيضًا في الأربعة المذكورة في سورة البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فقالوا‏:‏ هذا الحصر السماوي الذي ينزل به الملك مرة بعد مرة في مكة في الأنعام، والنحل، وفي المدينة عند تشريع الأحكام في البقرة لا يمكننا معارضته، ولا إخراج شيء منه إلا بدليل قطعي المتن‏.‏ متواتر كتواتر القرآن العظيم‏.‏

فالخمر مثلًا دل القرآن على أنها محرمة فحرمناها، لأن دليلها قطعي‏.‏ أما غيرها، كالسباع والحمر والبغال‏:‏ فأدلة تحريمها أخبار آحاد يقدم عليها القاطع وهو الآيات المذكورة آنفًا‏.‏

تنبيه

اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلًا بالسنة على الأربعة المذكورة في الآيات ـ كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرآن ـ وزيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين، أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء‏}‏ ‏.‏ غير ظاهر عندي‏.‏ لوضوح الفرق بين الأمرين، لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏.‏ في الأول، وآية‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء‏}‏‏.‏ في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات، ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء، لأن الزيادة على النص ليست نسخًا له عند الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة ـ رحمه الله‏.‏

وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين، لأن الزيادة عنده نسخ، والقرآن لا ينسخ بأخبار الآحاد، لأنه قطعي المتن وليست كذلك، أما زيادة محرم آخر على قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ ‏.‏ فليست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول، وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن لدلالة الحصر القرآني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة، وبين الأمرين فرق واضح، وبه تعلم أن مالكًا ـ رحمه الله ـ ليس ممن يقول‏:‏ بأن الزيادة على النص نسخ، اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفيًا بالنص قبلها، فكونها إذن ناسخة واضح، وهناك نظر آخر، قال به بعض العلماء‏:‏ وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية، وهي استصحاب العدم الأصلي، لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل، كما قاله جمع من أهل الأصول‏.‏

وإذا كانت إباحته عقلية‏:‏ فرفعها ليس بنسخ حتّى يشترط في ناسخها التواتر، وعن ابن كثير في تفسيره هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ وكونه نسخًا أظهر عندي، لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعًا فتكون إباحة شرعية لدلالة القرآن عليها، ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف، وأشار في ‏(‏مراقي السعود‏)‏ إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخًا بقوله‏:‏ وليس نسخًا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا

وهذا قول جمهور العلماء، ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد وما لا ينافي لا يكون ناسخًا، وهو ظاهر‏.‏

واعلم أن مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع، فروي عنه أنها حرام، وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في الموطأ‏:‏ لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع، ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه بإسناده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع‏"‏ ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعًا‏:‏

‏"‏أكل كل ذي ناب من السباع حرام‏"‏ ثم قال‏:‏ وهو الأمر عندنا وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها، وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه، وروي عنه أيضًا أنها مكروهة وهو ظاهر المدونة وهو المشهور عند أهل مذهبه، ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا، ومن جملتها الآية التي نحن بصددها‏.‏